الباب الرابع في نواقض الوضوء.
-والأصل في هذا الباب قوله تعالى {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء} وقوله عليه الصلاة والسلام "لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ" واتفقوا في هذا الباب على انتقاض الوضوء من البول والغائط والريح والمذي والودي لصحة الآثار في ذلك إذا كان خروجها على وجه الصحة.
-(ويتعلق بهذا الباب مما اختلفوا فيه سبع مسائل) تجري منه مجرى القواعد لهذا الباب.
-(المسألة الأولى) اختلف علماء الأمصار في انتقاض الوضوء مما يخرج من الجسد من النجس على ثلاثة مذاهب: فاعتبر قوم في ذلك الخارج وحده من أي موضع خرج وعلى أي جهة خرج، وهو أبو حنيفة وأصحابه والثوري وأحمد وجماعة ولهم من الصحابة السلف فقالوا: كل نجاسة تسيل من الجسد وتخرج منه يجب منها الوضوء كالدم والرعاف الكثير والفصد والحجامة والقيء إلا البلغم عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة: إنه إذا ملأ الفم ففيه الوضوء، ولم يعتبر أحد من هؤلاء اليسير من الدم إلا مجاهد، واعتبر قوم آخرون المخرجين الذكر والدبر، فقالوا: كل ما خرج من هذين السبيلين فهو ناقض للوضوء من أي شيء خرج من دم أو حصا أو بلغم وعلى أي وجه خرج كان خروجه على سبيل الصحة أو على سبيل المرض، وممن قال بهذا القول الشافعي وأصحابه ومحمد بن عبد الحكم من أصحاب مالك. واعتبر قوم آخرون الخارج والمخرج وصفة الخروج، فقالوا: كل ما خرج من السبيلين مما هو معتاد خروجه وهو البول والغائط والمذي والودي والريح إذا كان خروجه على وجه الصحة فهو ينقض الوضوء، فلم يروا في الدم والحصاة والدود وضوءا ولا في السلس، وممن قال بهذا القول مالك وجل أصحابه. والسبب في اختلافهم أنه لما أجمع المسلمون على انتقاض الوضوء مما يخرج من السبيلين من غائط وبول وريح ومذي لظاهر الكتاب ولتظاهر الآثار بذلك. تطرق إلى ذلك ثلاث احتمالات: أحدها أن يكون الحكم إنما علق بأعيان هذه الأشياء فقط المتفق عليها على ما رآه مالك رحمه الله. الاحتمال الثاني أن يكون الحكم إنما علق بهذه من جهة أنها أنجاس خارجة من البدن لكون الوضوء طهارة، والطهارة إنما يؤثر فيها النجس. والاحتمال الثالث أن يكون الحكم أيضا إنما علق بها من جهة أنها خارجة من هذين السبيلين، فيكون على هذين القولين الأخيرين ورود الأمر بالوضوء من تلك الأحداث المجمع عليها إنما هو من باب الخاص أريد به العام ويكون عند مالك وأصحابه إنما هو من باب الخاص المحمول على خصوصه؛ فالشافعي وأبو حنيفة اتفقا على أن الأمر بها هو من باب الخاص أريد به العام، واختلفا أي عام هو الذي قصد به؟ فمالك يرجح مذهبه بأن الأصل هو أن يحمل الخاص على خصوصه حتى يدل الدليل على غير ذلك، والشافعي محتج بأن المراد به المخرج لا الخارج باتفاقهم على إيجاب الوضوء من الريح الذي يخرج من أسفل، وعدم إيجاب الوضوء منه إذا خرج من فوق وكلاهما ذات واحدة، والفرق بينهما اختلاف المخرجين، فكان هذا تنبيها على أن الحكم للمخرج وهو ضعيف لأن الريحين مختلفان في الصفة والرائحة، وأبو حنيفة يحتج لأن المقصود بذلك هو الخارج النجس لكون النجاسة مؤثرة في الطهارة، وهذه الطهارة وإن كانت طهارة حكمية فإن فيها شبها من الطهارة المعنوية، أعني طهارة النجس، وبحديث ثوبان "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ" وبما روي عن عمر وابن عمر رضي الله عنهما من إيجابهما الوضوء من الرعاف وبما روي من أمره صلى الله عليه وسلم المستحاضة بالوضوء لكل صلاة، فكان المفهوم من هذا كله عند أبي حنيفة الخارج النجس، وإنما اتفق الشافعي وأبو حنيفة على إيجاب الوضوء من الأحداث المتفق عليها وإن خرجت على جهة المرض لأمره صلى الله عليه وسلم بالوضوء عند كل صلاة للمستحاضة والاستحاضة مرض. وأما مالك فرأى أن المرض له ههنا تأثير في الرخصة قياسا أيضا على ما روي أيضا من أن المستحاضة لم تؤمر إلا بالغسل فقط، وذلك أن حديث فاطمة بنت أبي حبيش هذا هو متفق على صحته، ويختلف في هذه الزيادة فيه، أعني الأمر بالوضوء لكل صلاة، ولكن صححها أبو عمر بن عبد البر، قياسا على من يغلبه الدم من جرح ولا ينقطع، مثل ما روي أن عمر رضي الله عنه صلى وجرحه يثعب دما.
-(المسألة الثانية) اختلف العلماء في النوم على ثلاثة مذاهب: فقوم رأوا أنه حدث، فأوجبوا من قليله وكثيره الوضوء، وقوم رأوا أنه ليس بحدث فلم يوجبوا منه الوضوء إلا إذا تيقن بالحدث على مذهب من لا يعتبر الشك، وإذا شك على مذهب من يعتبر الشك حتى إن بعض السلف كان يوكل بنفسه إذا نام من يتفقد حاله، أعني هل يكون منه حدث أم لا؟ وقوم فرقوا بين النوم القليل الخفيف والكثير المستثقل، فأوجبوا في الكثير المستثقل الوضوء دون القليل، وعلى هذا فقهاء الأمصار والجمهور. ولما كانت بعض الهيئات يعرض فيها الاستثقال من النوم أكثر من بعض، وكذلك خروج الحدث اختلف الفقهاء في ذلك، فقال مالك: من نام مضطجعا أو ساجدا فعليه الوضوء، طويلا كان النوم أو قصيرا. ومن نام جالسا فلا وضوء عليه إلا أن يطول ذلك به. واختلف القول في مذهبه في الراكع، فمرة قال حكمه حكم القائم، ومرة قال حكمه حكم الساجد. وأما الشافعي فقال: على كل نائم كيفما نام الوضوء إلا من نام جالسا، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا وضوء إلا على من نام مضطجعا، وأصل اختلافهم في هذه المسألة اختلاف الآثار الواردة في ذلك، وذلك أن ههنا أحاديث يوجب ظاهرها أنه ليس في النوم وضوء أصلا، كحديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل إلى ميمونة فنام عندها حتى سمعنا غطيطه ثم صلى ولم يتوضأ" وقوله عليه الصلاة والسلام "إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإنه لعله يذهب أن يستغفر ربه فيسب نفسه" وما روي أيضا "أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ينامون في المسجد حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضئون" وكلها آثار ثابتة وههنا أيضا أحاديث يوجب ظاهرها أن النوم حدث، وأبينها في ذلك حديث صفوان بن عسال وذلك أنه قال "كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن لا ننزع خفافنا من غائط وبول ونوم ولا ننزعها إلا من جنابة" فسوى بين البول والغائط والنوم، صححه الترمذي. ومنها حديث أبي هريرة المتقدم، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه" فإن ظاهره أن النوم يوجب الوضوء قليله وكثيره، وكذلك يدل ظاهر آية الوضوء عند من كان عنده المعنى في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} أي إذا قمتم من النوم على ما روي عن زيد بن أسلم وغيره من السلف فلما تعارضت ظواهر هذه الآثار ذهب العلماء فيها مذهبين: مذهب الترجيح، ومذهب الجمع؛ فمن ذهب مذهب الترجيح إما أسقط وجوب الوضوء من النوم أصلا على ظاهر الأحاديث التي تسقطه وإما أوجبه من قليله أو كثيره على ظاهر الأحاديث التي توجبه أيضا، أعني على حسب ما ترجح عنده من الأحاديث الموجبة، أو من الأحاديث المسقطة؛ ومن ذهب مذهب الجمع حمل الأحاديث الموجبة للوضوء منه على الكثير والمسقطة للوضوء على القليل، وهو كما قلنا مذهب الجمهور، والجمع أولى من الترجيح ما أمكن الجمع عند أكثر الأصوليين. وأما الشافعي فإنما حملها على أن استثنى من هيئات النائم الجلوس فقط لأنه قد صح ذلك عن الصحابة، أعني أنهم كانوا ينامون جلوسا ولا يتوضئون ويصلون. وإنما أوجبه أبو حنيفة في النوم والاضطجاع فقط لأن ذلك ورد في حديث مرفوع، وهو أنه عليه الصلاة والسلام قال "إنما الوضوء على من نام مضطجعا" والرواية بذلك ثابتة عن عمر. وأما مالك فلما كان النوم عنده إنما ينقض الوضوء من حيث كان غالبا سبب للحدث راعى فيه ثلاثة أشياء: الاستثقال أو الطول أو الهيئة، فلم يشترط في الهيئة التي يكون منها خروج الحدث غالبا لا الطول ولا الاستثقال، واشترط ذلك في الهيئات التي لا يكون خروج الحدث منها غالبا.
-(المسألة الثالثة) اختلف العلماء في إيجاب الوضوء من لمس النساء باليد أو بغير ذلك من الأعضاء الحساسة، فذهب قوم إلى أن من لمس امرأة بيده مفضيا إليها ليس بينه وبينها حجاب ولا ستر فعليه الوضوء، وكذلك من قبلها لأن القبلة عندهم لمس ما، سواء التذ أم لم يلتذ وبهذا القول قال الشافعي وأصحابه، إلا أنه مرة فرق بين اللامس والملموس، فأوجب الوضوء على اللامس دون الملموس، ومرة سوى بينهما، ومرة أيضا فرق بين ذوات المحارم والزوجة، فأوجب الوضوء من لمس الزوجة دون ذوات المحارم، ومرة سوى بينهما. وذهب آخرون إلى إيجاب الوضوء من اللمس إذا قارنته اللذة أو قصد اللذة في تفصيل لهم في ذلك وقع بحائل أو بغير حائل بأي عضو اتفق ما عدا القبلة، فإنهم لم يشترطوا لذة في ذلك، وهو مذهب مالك وجمهور أصحابه، ونفى قوم إيجاب الوضوء من لمس النساء وهو مذهب أبي حنيفة، ولكل سلف من الصحابة إلا اشتراط اللذة فإني لا أذكر أحدا من الصحابة اشترطها. وسبب اختلافهم في هذه المسألة اشتراك اسم اللمس في كلام العرب، فإن العرب تطلقه مرة على اللمس الذي هو باليد، ومرة تكني به عن الجماع، فذهب قوم إلى أن اللمس الموجب للطهارة في آية الوضوء هو الجماع في قوله تعالى {أو لامستم النساء} وذهب آخرون إلى أنه اللمس باليد، ومن هؤلاء من رآه من باب العام أريد به الخاص فاشترط فيه اللذة، ومنهم من رآه من باب العام أريد به العام فلم يشترط اللذة فيه، ومن اشترط اللذه فإنما دعاه إلى ذلك ما عارض عموم الآية من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلمس عائشة عند سجوده بيده وربما لمسته وخرج أهل الحديث حديث حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، فقلت من هي إلا أنت؟ فضحكت" قال أبو عمر هذا الحديث وهنه الحجازيون وصححه الكوفيون، وإلى تصحيحه مال أبو عمر بن عبد البر، قال: وروى هذا الحديث أيضا من طريق معبد بن نباتة، وقال الشافعي إن ثبت حديث معبد بن نباتة في القبلة لم أر فيها ولا في اللمس وضوءا. وقد احتج من أوجب الوضوء من اللمس باليد بأن اللمس ينطلق حقيقة على اللمس باليد وينطلق مجازا على الجماع، وأنه إذا تردد اللفظ بين الحقيقة والمجاز، فالأولى أن يحمل على الحقيقة حتى يدل الدليل على المجاز؛ ولأولئك أن يقولوا إن المجاز إذا كثر استعماله كان أدل على المجاز منه على الحقيقة كالحال في اسم الغائط الذي هو أدل على الحدث الذي هو فيه مجاز منه على المطمئن من الأرض الذي هو فيه حقيقة. والذي أعتقده أن اللمس وإن كانت دلالته على المعنيين بالسواء أو قريبا من السواء أنه أظهر عندي في الجماع وإن كان مجازا، لأن الله تبارك وتعالى قد كنى بالمباشرة والمس عن الجماع وهما في معنى اللمس، وعلى هذا التأويل في الآية يحتج بها في إجازة التيمم للجنب دون تقدير تقديم فيها ولا تأخير على ما سيأتي بعد، وترتفع المعارضة التي بين الآثار والآية على التأويل الآخر. وأما من فهم من الآية اللمسين معا فضعيف، فإن العرب إذا خاطبت بالاسم المشترك إنما تقصد به معنى واحد من المعاني التي يدل عليها الاسم لا جميع المعاني التي يدل عليها، وهذا بين بنفسه في كلامهم.
-(المسألة الرابعة) مس الذكر. اختلف العلماء فيه على ثلاثة مذاهب، فمنهم من رأى الوضوء فيه كيفما مسه، وهو مذهب الشافعي وأصحابه وأحمد وداود، ومنهم من لم ير فيه وضوءا أصلا وهو أبو حنيفة وأصحابه، ولكلا الفريقين سلف من الصحابة والتابعين. وقوم فرقوا بين أن يمسه بحال أو لا يمسه بتلك الحال، وهؤلاء افترقوا فيه فرقا: فمنهم من فرق فيه بين أن يلتذ أو لا يلتذ. ومنهم من فرق بين أن يمسه بباطن الكف أو لا يمسه، فأوجبوا الوضوء مع اللذة ولم يوجبوه مع عدمها، وكذلك أوجبه قوم مع المس بباطن الكف ولم يوجبوه مع المس بظاهرها، وهذان الاعتباران مرويان عن أصحاب مالك، وكان اعتبار باطن الكف راجع إلى اعتبار سبب اللذة. وفرق قوم في ذلك بين العمد والنسيان، فأوجبوا الوضوء منه مع العمد ولم يوجبوه مع النسيان، وهو مروي عن مالك، وهو قول داود وأصحابه. ورأى قوم أن الوضوء من مسه سنة لا واجب، قال أبو عمر: وهذا الذي استقر من مذهب مالك عند أهل المغرب من أصحابه، والرواية عنه فيه مضطربة. وسبب اختلافهم في ذلك أن فيه حديثين متعارضين: أحدهما الحديث الوارد من طريق بسرة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ" وهو أشهر الأحاديث الواردة في إيجاب الوضوء من مس الذكر، خرجه مالك في الموطأ، وصححه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل، وضعفه أهل الكوفة؛ وقد روي أيضا معناه من طريق أم حبيبة، وكان أحمد بن حنبل يصححه، وقد روي أيضا معناه من طريق أبي هريرة، وكان ابن السكن أيضا يصححه، ولم يخرجه البخاري ولا مسلم. والحديث الثاني المعارض له حديث طلق بن علي قال "قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده رجل كأنه بدوي، فقال: يا رسول الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعد أن يتوضأ؟ فقال: وهل هو إلا بضعة منك؟" خرجه أيضا أبو داود والترمذي، وصححه كثير من أهل العلم الكوفيون وغيرهم؛ فذهب العلماء في تأويل هذه الأحاديث أحد مذهبين: إما مذهب الترجيح أو النسخ، وإما مذهب الجمع، فمن رجح حديث بسرة أو رآه ناسخا لحديث طلق بن علي قال بإيجاب الوضوء من مس الذكر، ومن رجح حديث طلق بن علي أسقط وجوب الوضوء من مسه، ومن رام أن يجمع بين الحديثين أوجب الوضوء منه في حال ولم يوجبه في حال، أو حمل حديث بسرة على الندب، وحديث طلق بن علي نفى الوجوب والاحتجاجات التي يحتج بها كل واحد من الفريقين في ترجيح الحديث الذي رجحه كثيرة يطول ذكرها، وهي موجودة في كتبهم، ولكن نكتة اختلافهم هو ما أشرنا إليه.
-(المسألة الخامسة) اختلف الصدر الأول في إيجاب الوضوء من أكل ما مسته النار لاختلاف الآثار الواردة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق جمهور فقهاء الأمصار بعد الصدر الأول على سقوطه، إذ صح عندهم أنه عمل الخلفاء الأربعة، ولما ورد من حديث جابر أنه قال: "كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار" خرجه أبو داود. ولكن ذهب قوم من أهل الحديث أحمد وإسحاق وطائفة غيرهم أن الوضوء يجب فقط من أكل لحم الجزور لثبوت الحديث الوارد بذلك عنه عليه الصلاة والسلام.
-(المسألة السادسة): شذ أبو حنيفة فأوجب الوضوء من الضحك في الصلاة لمرسل أبي العالية، وهو أن قوما ضحكوا في الصلاة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الوضوء والصلاة. ورد الجمهور هذا الحديث لكونه مرسلا ولمخالفته للأصول، وهو أن يكون شيء ما ينقض الطهارة في الصلاة ولا ينقضها في غير الصلاة وهو مرسل صحيح.
-(المسألة السابعة) وقد شذ قوم فأوجبوا الوضوء من حمل الميت، وفيه أثر ضعيف "من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ" وينبغي أن تعلم أن جمهور العلماء أوجبوا الوضوء من زوال العقل بأي نوع كان من قبل إغماء أو جنون أو سكر، وهؤلاء كلهم قاسوه على النوم، أعني أنهم رأوا أنه إذا كان يوجب الوضوء في الحالة التي هي سبب للحدث غالبا وهو الاستثقال، فأحرى أن يكون ذهاب العقل سببا لذلك، فهذه هي مسائل هذا الباب المجمع عليها، والمشهورات من المختلف فيها، وينبغي أن نصير إلى الباب الخامس.
الباب الخامس. وهو معرفة الأفعال التي تشترط هذه الطهارة في فعلها.
-والأصل في هذا الباب قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} الآية، وقوله عليه الصلاة والسلام "لايقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول" فاتفق المسلمون على أن الطهارة شرط من شروط الصلاة لمكان هذا، وإن كانوا اختلفوا هل هي شرط من شروط الصحة أو من شروط الوجوب، ولم يختلفوا أن ذلك شرط في جميع الصلوات إلا في صلاة الجنازة وفي السجود، أعني سجود التلاوة، فإن فيه خلافا شاذا، والسبب في ذلك الاحتمال العارض في انطلاق اسم الصلاة على الصلاة على الجنائز وعلى السجود، فمن ذهب إلى أن اسم الصلاة ينطلق على صلاة الجنائز وعلى السجود نفسه وهم الجمهور اشترط هذه الطهارة فيهما: ومن ذهب إلى أنه لا ينطلق عليهما إذ كانت صلاة الجنائز ليس فيها ركوع ولا سجود، وكان السجود أيضا ليس فيه قيام ولا ركوع لم يشترطوا هذه الطهارة فيهما، ويتعلق بهذا الباب مع هذه المسألة أربع مسائل:
-(المسألة الأولى) هل هذه الطهارة شرط في مس المصحف أم لا؟ فذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي إلى أنها شرط في مس المصحف، وذهب أهل الظاهر إلى أنها ليست بشرط في ذلك، والسبب في اختلافهم تردد مفهوم قوله تعالى {لا يمسه إلا المطهرون} بين أن يكون المطهرون هم بنو آدم وبين أن يكونوا هم الملائكة، وبين أن يكون هذا الخبر مفهمومه النهي، وبين أن يكون خبرا لا نهيا، فمن فهم من المطهرون بني آدم، وفهم من الخبر النهي قال: لا يجوز أن يمس المصحف إلا طاهر، ومن فهم منه الخبر فقط وفهم من لفظ المطهرون الملائكة قال: إنه ليس في الآية دليل على اشتراط هذه الطهارة في مس المصحف، وإذا لم يكن هنالك دليل لا من كتاب ولا من سنة ثابتة بقي الأمر على البراءة الأصلية وهي الإباحة؛ وقد احتج الجمهور لمذهبهم بحديث عمرو بن حزم "أن النبي عليه الصلاة والسلام كتب: لا يمس القرآن إلا طاهر" وأحاديث عمرو بن حزم اختلف الناس في وجوب العمل بها لأنها مصحفة، ورأيت ابن المفوز يصححها إذا روتها الثقات لأنها كتاب النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك أحاديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأهل الظاهر يردونهما، ورخص مالك للصبيان في مس المصحف على غير طهر لأنهم غير مكلفين.
-(المسألة الثانية) اختلف الناس في إيجاب الوضوء على الجنب في أحوال: أحدها إذا أراد أن ينام وهو جنب؛ فذهب الجمهور إلى استحبابه دون وجوبه وذهب أهل الظاهر إلى وجوبه لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمر "أنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تصيبه جنابة من الليل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: توضأ واغسل ذكرك ثم نم" وهو أيضا مروي عنه من طريق عائشة. وذهب الجهمور إلى حمل الأمر بذلك على الندب والعدول به عن ظاهره لمكان عدم مناسبة وجوب الطهارة لإرادة النوم، أعني المناسبة الشرعية، وقد احتجوا أيضا لذلك بأحاديث أثبتها حديث ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء فأتي بطعام، فقالوا: ألا نأتيك بطهر؟ فقال: أأصلي فأتوضأ. وفي بعض رواياته: فقيل له: ألا تتوضأ؟ فقال: ما أردت الصلاة فأتوضأ" والاستدلال به ضعيف، فإنه من باب مفهوم الخطاب من أضعف أنواعه، وقد احتجوا بحديث عائشة "أنه عليه الصلاة والسلام كان ينام وهو جنب لا يمس الماء" إلا أنه حديث ضعيف. وكذلك اختلفوا في وجوب الوضوء على الجنب الذي يريد أن يأكل أو يشرب وعلى الذي يريد أن يعاود أهله، فقال الجمهور في هذا كله بإسقاط الوجوب لعدم مناسبة الطهارة لهذه الأشياء، وذلك أن الطهارة إنما فرضت في الشرع لأحوال التعظيم كالصلاة، وأيضا فلمكان تعارض الآثار في ذلك، وذلك أنه روي عنه عليه الصلاة والسلام "أنه أمر الجنب إذا أراد أن يعاود أهله أن يتوضأ" وروي عنه أنه كان يجامع ثم يعاود ولا يتوضأ. وكذلك روي عنه منع الأكل والشرب للجنب حتى يتوضأ. وروي عنه إباحة ذلك.
-(المسألة الثالثة) ذهب مالك والشافعي إلى اشتراط الوضوء في الطواف، وذهب أبو حنيفة إلى إسقاطه. وسبب اختلافهم تردد الطواف بين أن يلحق حكمه بحكم الصلاة أو لا يلحق، وذلك أنه ثبت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع الحائض الطواف كما منعها الصلاة" فأشبه الصلاة من هذه الجهة. وقد جاء في بعض الآثار تسمية الطواف صلاة، وحجة أبي حنيفة أنه ليس كل شيء منعه الحيض، فالطهارة شرط في فعله إذا ارتفع الحيض كالصوم عند الجمهور.
-(المسألة الرابعة) ذهب الجمهور إلى أنه يجوز لغير متوضئ أن يقرأ القرآن ويذكر الله، وقال قوم: لا يجوز ذلك له إلا أن يتوضأ. وسبب الخلاف حديثان متعارضان ثابتان: أحدهما حديث أبي جهم قال "أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه السلام حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم إنه رد عليه الصلاة والسلام السلام". والحديث الثاني حديث علي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء إلا الجنابة" فصار الجمهور إلى أن الحديث الثاني ناسخ للأول، وصار من أوجب الوضوء لذكر الله إلى ترجيح الحديث الأول.
كتاب الغسل.
-والأصل في هذه الطهارة قوله تعالى {وإن كنتم جنبا فاطهروا} والكلام المحيط بقواعدها ينحصر بعد المعرفة بوجوبها وعلى من تجب، ومعرفة ما به تفعل، وهو الماء المطلق في ثلاثة أبواب: الباب الأول: في معرفة العمل في هذه الطهارة. والثاني: في معرفة نواقض هذه الطهارة. والباب الثالث: في معرفة أحكام نواقض هذه الطهارة. فأما على من تجب؟ فعلى كل من لزمته الصلاة ولا خلاف في ذلك، وكذلك لا خلاف في وجوبها ودلائل ذلك هي دلائل الوضوء بعينها، وقد ذكرناها، وكذلك أحكام المياه، وقد تقدم القول فيها.
الباب الأول في معرفة العلم في هذه الطهارة. وهذا الباب يتعلق به أربع مسائل:
-(المسألة الأولى) اختلف العلماء هل من شرط هذه الطهارة إمرار اليد على جميع الجسد كالحال في طهارة أعضاء الوضوء، أم يكفي فيها إفاضة الماء على جميع الجسد وإن لم يمر يديه على بدنه؛ فأكثر العلماء على أن إفاضة الماء كافية في ذلك. وذهب مالك وجل أصحابه والمزني من أصحاب الشافعي إلى أنه إن فات المتطهر موضع واحد من جسده لم يمر يده عليه أن طهره لم يكمل بعد. والسبب في اختلافهم اشتراك اسم الغسل ومعارضة ظاهر الأحاديث الواردة في صفة الغسل لقياس الغسل على ذلك في الوضوء، وذلك أن الأحاديث الثابتة التي وردت في صفة غسله عليه الصلاة والسلام من حديث عائشة وميمونة ليس فيها ذكر التدلك، وإنما فيها إفاضة الماء فقط. ففي حديث عائشة قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات، ثم يفيض الماء على جلده كله" والصفة الواردة في حديث ميمونة قريبة من هذا، إلا أنه أخر غسل رجليه من أعضاء الوضوء إلى آخر الطهر، وفي حديث أم سلمة أيضا، وقد سألته عليه الصلاة والسلام : "هل تنقض ضفر رأسها لغسل الجنابة، فقال عليه الصلاة والسلام : إنما يكفيك أن تحثي على رأسك الماء ثلاث حثيات، ثم تفيضي عليك الماء فإذا أنت قد طهرت" وهو أقوى في إسقاط التدلك من تلك الأحاديث الأخر، لأنه لا يمكن هنالك أن يكون الواصف لطهره قد ترك التدلك، وأما ههنا فإنما حصر لها شروط الطهارة، ولذلك أجمع العلماء على أن صفة الطهارة الواردة من حديث ميمونة وعائشة هي أكمل صفاتها، وأن ما ورد في حديث أم سلمة من ذلك فهو من أركانها الواجبة، وأن الوضوء في أول الطهر ليس من شرط الطهر إلا خلافا شاذا، روي عن الشافعي وفيه قوة من جهة الأحاديث، وفي قول الجمهور قوة من جهة النظر، لأن الطهارة ظاهر من أمرها أنها شرط في صحة الوضوء، لا أن الوضوء شرط في صحتها، فهو من باب معارضة القياس لظاهر الحديث، وطريقة الشافعي تغليب ظاهر الأحاديث على القياس؛ فذهب قوم كما قلنا إلى ظاهر الأحاديث وغلبوا ذلك على قياسها على الوضوء، فلم يوجبوا التدلك، وغلب آخرون قياس هذه الطهارة على الوضوء على ظاهر الأحاديث، فأوجبوا التدلك كالحال في الوضوء، فمن رجح القياس صار إلى إيجاب التدلك، ومن رجح ظاهر الأحاديث على القياس صار إلى إسقاط التدلك، وأعني بالقياس: قياس الطهر على الوضوء. وأما الاحتجاج من طريق الاسم ففيه ضعف إذ كان اسم الطهر والغسل ينطلق في كلام العرب على المعنيين جميعا على حد سواء.
-(المسألة الثانية) اختلفوا هل من شروط هذه الطهارة النية أم لا؟ كاختلافهم في الوضوء، فذهب مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وداود وأصحابه إلى أن النية من شروطها، وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري إلى أنها تجزئ بغير نية كالحال في الوضوء عندهم. وسبب اختلافهم في الطهر هو بعينه سبب اختلافهم في الوضوء، وقد تقدم ذلك.
-(المسألة الثالثة) اختلفوا في المضمضة والاستنشاق في هذه الطهارة أيضا كاختلافهم فيهما في الوضوء. أعني هل هما واجبان فيها أم لا؟ فذهب قوم إلى أنهما غير واجبين فيها، وذهب قوم إلى وجوبهما؛ وممن ذهب إلى عدم وجوبهما مالك والشافعي، وممن ذهب إلى وجوبهما أبو حنيفة وأصحابه. وسبب اختلافهم معارضة ظاهر حديث أم سلمة للأحاديث التي نقلت من صفة وضوئه عليه الصلاة والسلام في طهره وذلك أن الأحاديث التي نقلت من صفة وضوئه في الطهر فيها المضمضة والاستنشاق، وحديث أم سلمة ليس فيه أمر لا بمضمضة ولا باستنشاق، فمن جعل حديث عائشة وميمونة مفسرا لمجمل حديث أم سلمة ولقوله تعالى {وإن كنتم جنبا فاطهروا} أوجب المضمضة والاستنشاق، ومن جعله معارضا جمع بينهما بأن حمل حديثي عائشة وميمونة على الندب، وحديث أم سلمة على الوجوب، ولهذا السبب بعينه اختلفوا في تخليل الرأس هل هو واجب في هذه الطهارة أم لا؟ ومذهب مالك أنه مستحب، ومذهب غيره أنه واجب، وقد عضد مذهبه من أوجب التخليل بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال " تحت كل شعرة جنابة فأنقوا البشرة وبلوا الشعر".
-(المسألة الرابعة) اختلفوا هل من شرط هذه الطهارة الفور والترتيب، أم ليسا من شروطهما كاختلافهم من ذلك في الوضوء؟. وسبب اختلافهم في ذلك هل فعله عليه الصلاة والسلام محمول على الوجوب أو على الندب؟ فإنه لم ينقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه ما توضأ قط إلا مرتبا متواليا، وقد ذهب قوم إلى أن الترتيب في هذه الطهارة أبين منها في الوضوء. وذلك بين الرأس وسائر الجسد، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أم سلمة "إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضي الماء على جسدك" وحرف ثم يقتضي الترتيب بلا خلاف بين أهل اللغة.
الباب الثاني في معرفة نواقض هذه الطهارة.
-والأصل في هذا الباب قوله تعالى {وإن كنتم جنبا فاطهروا} وقوله {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى} الآية. واتفق العلماء على وجوب هذه الطهارة من حدثين: أحدهما خروج المني على وجه الصحة في النوم أو اليقظة من ذكر كان أو أنثى، إلا ما روي عن النخعي من أنه كان لا يرى على المرأة غسلا من الاحتلام، وإنما اتفق الجمهور على مساواة المرأة في الاحتلام للرجل لحديث أم سلمة الثابت أنها قالت "يا رسول الله المرأة ترى في المنام مثل ما يرى الرجل هل عليها غسل؟ قال: نعم إذا رأت الماء". وأما الحديث الثاني الذي اتفقوا عليه فهو دم الحيض، أعني إذا انقطع، وذلك أيضا لقوله تعالى {ويسألونك عن المحيض} الآية، ولتعليمه الغسل من الحيض لعائشة وغيرها من النساء. واختلفوا في هذا الباب مما يجري مجرى الأصول في مسئلتين مشهورتين.
-(المسألة الأولى) اختلف الصحابة رضي الله عنهم في سبب إيجاب الطهر من الوطء، فمنهم من رأى الطهر واجبا في التقاء الختانين أنزل أم لم ينزل، وعليه أكثر فقهاء الأمصار مالك وأصحابه والشافعي وأصحابه وجماعة من أهل الظاهر، وذهب قوم من أهل الظاهر إلى إيجاب الطهر مع الإنزال فقط والسبب في اختلافهم في ذلك تعارض الأحاديث في ذلك، لأنه ورد في ذلك حديثان ثابتان اتفق أهل الصحيح على تخريجهما. قال القاضي رضي الله عنه: ومتى قلت ثابت، فإنما أعني به ما أخرجه البخاري ومسلم، أو ما اجتمعا عليه: أحدهما حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "إذا قعد بين شعبها الأربع وألزق الختان بالختان فقد أوجب الغسل" والحديث الثاني حديث عثمان أنه سئل فقيل له "أرأيت الرجل إذا جامع أهله ولم يمن؟ قال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم " فذهب العلماء في هذين الحديثين مذهبين: أحدهما مذهب النسخ، والثاني مذهب الرجوع إلى ما عليه الاتفاق عند التعارض الذي لا يمكن الجمع فيه ولا الترجيح. فالجمهور رأوا أن حديث أبي هريرة ناسخ لحديث عثمان، ومن الحجة لهم على ذلك ما روي عن أبي بن كعب أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل ذلك رخصة في أول الإسلام ثم أمر بالغسل، خرجه أبو داود. وأما من رأى أن التعارض بين هذين الحديثين هو مما لا يمكن الجمع فيه بينهما ولا الترجيح فوجب الرجوع عنده إلى ما عليه الاتفاق، وهو وجوب الماء من الماء. وقد رحج الجمهور حديث أبي هريرة من جهة القياس، قالوا: وذلك أنه لما وقع الإجماع على أن مجاورة الختانين توجب الحد وجب أن يكون هو الموجب للغسل، وحكموا أن هذا القياس مأخوذ عن الخلفاء الأربعة، ورجح الجمهور ذلك أيضا من حديث عائشة لأخبارها ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرجه مسلم.
-(المسألة الثانية) اختلف العلماء في الصفة المعتبرة في كون خروج المني موجبا للطهر. فذهب مالك إلى اعتبار اللذة في ذلك. وذهب الشافعي إلى أن نفس خروجه هو الموجب للطهر سواء خرج بلذة أو بغير لذة. وسبب اختلافهم في ذلك هو شيئان: أحدهما هل اسم الجنب ينطلق على الذي أجنب على الجهة الغير المعتادة أم ليس ينطلق عليه؟ فمن رأى أنه إنما ينطلق على الذي أجنب على طريق العادة لم يوجب الطهر في خروجه من غير لذة، ومن رأى أنه ينطلق على خروج المني كيفما خرج أوجب منه الطهر وإن لم يخرج مع لذة. والسبب الثاني تشبيه خروجه بغير لذة بدم الاستحاضة، واختلافهم في خروج الدم على جهة الاستحاضة هل يوجب طهرا أم ليس يوجبه؟ فسنذكره في باب الحيض وإن كان من هذا الباب.
وفي المذهب في هذا الباب فرع، وهو إذا انتقل من أصل مجاريه بلذة ثم خرج في وقت آخر بغير لذة مثل أن يخرج من المجامع بعد أن يتطهر، فقيل يعيد الطهر، وقيل لا يعيده، وذلك أن هذا النوع من الخروج صحبته اللذة في بعض نقلته ولم تصحبه في بعض، فمن غلب حال اللذة قال: يجب الطهر، ومن غلب حال عدم اللذة قال: لا يجب عليه الطهر.
الباب الثالث. في أحكام هذين الحدثين أعني الجنابة والحيض.
أما أحكام الحدث الذي هو الجنابة، ففيه ثلاث مسائل:
-(المسألة الأولى) اختلف العلماء في دخول المسجد للجنب على ثلاثة أقوال: فقوم منعوا ذلك بإطلاق، وهو مذهب مالك وأصحابه؛ وقوم منعوا ذلك إلا لعابر فيه لا مقيم ومنهم الشافعي؛ وقوم أباحوا ذلك للجميع، ومنهم داود وأصحابه فيما أحسب. وسبب اختلاف الشافعي وأهل الظاهر هو تردد قوله تبارك وتعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} الآية، بين أن يكون في الآية مجاز حتى يكون هنالك محذوف مقدر وهو موضع الصلاة: أي لا تقربوا موضع الصلاة، ويكون عابر السبيل استثناء من النهي عن قرب موضع الصلاة، وبين أن لا يكون هنالك محذوف أصلا وتكون الآية على حقيقتها، ويكون عابر السبيل هو المسافر الذي عدم الماء وهو جنب، فمن رأى أن في الآية محذوفا أجاز المرور للجنب في المسجد ومن لم ير ذلك لم يكن عنده في الآية دليل على منع الجنب الإقامة في المسجد وأما من منع العبور في المسجد فلا أعلم له دليلا إلا ظاهر ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "لا أحل المسجد لجنب ولا حائض" وهو حديث غير ثابت عند أهل الحديث، واختلافهم في الحائض في هذا المعنى هو اختلافهم في الجنب.
-(المسألة الثانية: مس الجنب المصحف) ذهب قوم إلى إجازته وذهب الجهمور إلى منعه، وهم الذين منعوا أن يمسه غير متوضئ. وسبب اختلافهم هو سبب اختلافهم في منع غير المتوضئ أن يمسه أعني قوله {لا يمسه إلا المطهرون} وقد ذكرنا سبب الاختلاف في الآية فيما تقدم، وهو بعينه سبب اختلافهم في منع الحائض مسه.
-(المسألة الثالثة: قراءة القرآن للجنب) اختلف الناس في ذلك، فذهب الجمهور إلى منع ذلك، وذهب قوم إلى إباحته، والسبب في ذلك الاحتمال المتطرق إلى حديث علي أنه قال "كان عليه الصلاة والسلام لا يمنعه من قراءة القرآن شيء إلا الجنابة" وذلك أن قوما قالوا: إن هذا لا يوجب شيئا، لأنه ظن من الراوي، ومن أين يعلم أحد أن ترك القراءة كان لموضع الجنابة إلا لو أخبره بذلك؟ والجمهور رأوا أنه لم يكن علي رضي الله عنه ليقول هذا عن توهم ولا ظن، وإنما قاله عن تحقق، وقوم جعلوا الحائض في هذا الاختلاف بمنزلة الجنب، وقوم فرقوا بينهما، فأجازوا للحائض القراءة القليلة استحسانا لطول مقامها حائضا، وهو مذهب مالك، فهذه هي أحكام الجنابة.
-(وأما أحكام الدماء الخارجة من الرحم) فالكلام المحيط بأصولها ينحصر في ثلاثة أبواب: الأول: معرفة أنواع الدماء الخارجة من الرحم. والثاني: معرفة العلامات التي تدل على انتقال الطهر إلى الحيض، والحيض إلى الطهر أو الاستحاضة، والاستحاضة أيضا إلى الطهر. والثالث: معرفة أحكام الحيض والاستحاضة: أعني موانعهما وموجباتهما.
ونحن نذكر في كل باب من هذه الأبواب الثلاثة من المسائل ما يجري مجرى القواعد والأصول لجميع ما في هذا الباب على ما قصدنا إليه مما اتفقوا عليه واختلفوا فيه.
الباب الأول.
-اتفق المسلمون على أن الدماء التي تخرج من الرحم ثلاثة: دم حيض، وهو الخارج على جهة الصحة، ودم استحاضة، وهو الخارج على جهة المرض، وأنه غير دم الحيض لقوله عليه الصلاة والسلام "إنما ذلك عرق وليس بالحيضة". ودم نفاس، وهو الخارج مع الولد.
الباب الثاني.
-أما معرفة علامات انتقال هذه الدماء بعضها إلى بعض، وانتقال الطهر إلى الحيض، والحيض إلى الطهر، فإن معرفة ذلك في الأكثر تنبني على معرفة أيام الدماء المعتادة وأيام الأطهار، ونحن نذكر منها ما يجري مجرى الأصول وهي سبع مسائل:
-(المسألة الأولى) اختلف العلماء في أكثر أيام الحيض وأقلها وأقل أيام الطهر، فروي عن مالك أن أكثر أيام الحيض خمسة عشر يوما، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: أكثره عشرة أيام، وأما أقل أيام الحيض فلا حد لها عند مالك، بل قد تكون الدفعة الواحدة عنده حيضا، إلا أنه لا يعتد بها في الأقراء في الطلاق. وقال الشافعي: أقله يوم وليلة. وقال أبو حنيفة: أقله ثلاثة أيام. وأما أقل الطهر فاضطربت فيه الروايات عن مالك، فروي عنه عشرة أيام، وروي عنه ثمانية أيام، وروي خمسة عشر يوما، وإلى هذه الرواية مال البغدايون من أصحابه، وبها قال الشافعي وأبو حنيفة، وقيل سبعة عشر يوما، وهو أقصى ما انعقد عليه الإجماع فيما أحسب، وأما أكثر الطهر فليس له عندهم حد؛ وإذا كان هذا موضوعا من أوقاويلهم فمن كان لأقل الحيض عنده قدر معلوم وجب أن يكون ما كان أقل من ذلك القدر إذا ورد في سن الحيض عنده استحاضة، ومن لم يكن لأقل الحيض عنده قدر محدود وجب أن تكون الدفعة عنده حيضا، ومن كان أيضا عنده أكثره محدودا وجب أن يكون ما زاد على ذلك القدر عنده استحاضة، ولكن محصل مذهب مالك في ذلك أن النساء على ضربين: مبتدأة ومعتادة؛ فالمبتدأة تترك الصلاة برؤية أول دم تراه إلى تمام خمسة عشر يوما، فإن لم ينقطع صلت وكانت مستحاضة، وبه قال الشافعي، إلا أن مالكا قال تصلي من حين تتيقن الاستحاضة، وعند الشافعي أنها تعيد صلاة ما سلف لها من الأيام، إلا أقل الحيض عنده وهو يوم وليلة. وقيل عن مالك بل تعتد أيام لداتها ثم تستظهر بثلاثة ايام، فإن لم ينقطع الدم فهي مستحاضة. وأما المعتادة ففيها روايتان عن مالك: إحداهما بناؤها على عادتها وزيادة ثلاثة أيام ما لم تتجاوز أكثر مدة الحيض. والثانية جلوسها إلى انقضاء أكثر مدة الحيض، أو تعمل على التمييز إن كانت من أهل التمييز. وقال الشافعي: تعمل على أيام عادتها وهذه الأقاويل لها المختلف فيها عند الفقهاء في أقل الحيض وأكثره وأقل الطهر لا مستند لها إلا التجربة والعادة، وكل إنما قال من ذلك ما ظن أن التجربة أوقفته على ذلك ولاختلاف ذلك في النساء عسر أن يعرف بالتجربة حدود هذه الأشياء في أكثر النساء، ووقع في ذلك هذا الخلاف الذي ذكرنا وأجمعوا بالجملة على أن الدم إذا تمادى أكثر من مدة أكثر الحيض أنه استحاضة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت لفاطمة بنت حبيش "فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهبت قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي" والمتجاوزة لأمد أكثر أيام الحيض قد ذهب عنها قدرها ضرورة وإنما صار الشافعي ومالك رحمه الله في المعتادة في إحدى الروايتين عنه إلى أنها تبني على عادتها لحديث أم سلمة الذي رواه في الموطأ "أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصلي" فألحقوا حكم الحائض التي تشك في الاستحاضة بحكم المستحاضة التي تشك في الحيض. وإنما رأى أيضا في المبتدأة أن يعتبر أيام لداتها، لأن أيام لداتها شبيهة بأيامها فجعل حكمهما واحدا. وأما الاستظهار الذي قال به مالك بثلاثة أيام، فهو شيء انفرد به مالك وأصحابه رحمهم الله وخالفهم في ذلك جميع فقهاء الأمصار ما عدا الأوزاعي، إذ لم يكن لذلك ذكر في الأحاديث الثابتة، وقد روي في ذلك أثر ضعيف.
-(المسألة الثانية) ذهب مالك وأصحابه في الحائض التي تنقطع حيضتها، وذلك بأن تحيض يوما أو يومين، وتطهر يوما أو يومين إلى أنها تجمع أيام الدم بعضها إلى بعض وتلغي أيام الطهر وتغتسل في كل يوم ترى فيه الطهر أول ما تراه وتصلي، فإنها لا تدري لعل ذلك طهر فإذا اجتمع لها من أيام الدم خمسة عشر يوما فهي مستحاضة، وبهذا القول قال الشافعي. وروي عن مالك أيضا أنها تلفق أيام الدم وتعتبر ذلك أيام عادتها فإن ساوتها استظهرت بثلاثة أيام، فإن انقطع الدم وإلا فهي مستحاضة، وجعل الأيام التي لا تر فيها الدم غير معتبرة في العدد لا معنى له، فإنه لا تخلو تلك الأيام أن تكون أيام حيض أو أيام طهر، فإن كانت أيام حيض فيجب أن تلفقها إلى أيام الدم، وإن كانت أيام طهر فليس يجب أن تلفق أيام الدم، إذ كان قد تخللها طهر، والذي يجيء على أصوله أنها أيام حيض لا أيام طهر إذ أقل الطهر عنده محدود وهو أكثر من اليوم واليومين فتدبر هذا فإنه بين إن شاء الله تعالى. والحق أن دم الحيض ودم النفاس يجري ثم ينقطع يوما أو يومين ثم يعود حتى تنقضي أيام الحيض أو أيام النفاس كما تجري ساعة أو ساعتين من النهار ثم تنقطع.
-(المسألة الثالثة) اختلفوا في أقل النفاس وأكثره؛ فذهب مالك إلى أنه لا حد لأقله، وبه قال الشافعي؛ وذهب أبو حنيفة وقوم إلى أنه محدود، فقال أبو حنيفة: هو خمسة وعشرون يوما، وقال أبو يوسف صاحبه: أحد عشر يوما، وقال الحسن البصري: عشرون يوما. وأما أكثره فقال مالك مرة: هو ستون يوما، ثم رجع عن ذلك فقال: يسأل عن ذلك النساء، وأصحابه ثابتون على القول الأول وبه قال الشافعي. وأكثر أهل العلم من الصحابة على أن أكثره أربعون يوما، وبه قال أبو حنيفة وقد قيل تعتبر المرأة في ذلك أيام أشباهها من النساء، فإذا جاوزتها فهي مستحاضة. وفرق قوم بين ولادة الذكر وولادة الأنثى، فقالوا: للذكر ثلاثون يوما وللأنثى أبعون يوما وسبب الخلاف عسر الوقوف على ذلك بالتجربة لاختلاف أحوال النساء في ذلك، ولأنه ليس هناك سنة يعمل عليها كالحال في اختلافهم في أيام الحيض والطهر.
-(المسألة الرابعة) اختلف الفقهاء قديما وحديثا هل الدم الذي ترى الحامل هو حيض أم استحاضة؟ فذهب مالك والشافعي في أصح قوليه وغيرهما إلى أن الحامل تحيض؛ وذهب أبو حنيفة وأحمد والثوري وغيرهم إلى أن الحامل لا تحيض، وأن الدم الظاهر لها دم فساد وعلة، إلا أن يصيبها الطلق، فأجمعوا على أنه دم نفاس، وأن حكمه حكم الحيض في منعه الصلاة وغير ذلك من أحكامه، ولمالك وأصحابه في معرفة انتقال الحائض الحامل إذا تمادى بها الدم من حكم الحيض إلى حكم الاستحاضة أقوال مضطربة: أحدها أن حكمها حكم الحائض نفسها؛ أعني إما أن تقعد أكثر أيام الحيض ثم هي مستحاضة، وإما أن تستظهر على أيامها المعتادة بثلاثة أيام ما لم يكن مجموع ذلك أكثر من خمسة عشر يوما، وقيل إنها تقعد حائضا ضعف أكثر أيام الحيض، وقيل إنها تضعف أكثر أيام الحيض بعدد الشهور التي مرت لها ففي الشهر الثاني من حملها تضعف أيام أكثر الحيض مرتين، وفي الثالث ثلاث مرات وفي الرابع أربع مرات وكذلك ما زادت الأشهر. وسبب اختلافهم في ذلك عسر الوقوف على ذلك بالتجربة واختلاط الأمرين، فإنه مرة يكون الدم الذي تراه الحامل دم حيض، وذلك إذا كانت قوة المرأة وافرة والجنين صغيرا، وبذلك أمكن أن يكون حمل على حمل على ما حكاه بقراط وجالينوس وسائر الأطباء، ومرة يكون الدم الذي تراه الحامل لضعف الجنين ومرضه التابع لضعفها ومرضها في الأكثر، فيكون دم علة ومرض، وهو في الأكثر دم علة.
-(المسألة الخامسة) اختلف الفقهاء في الصفرة والكدرة هل هي حيض أم لا؟ فرأت جماعة أنها حيض في أيام الحيض، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة، وروي مثل ذلك عن مالك. وفي المدونة عنه: أن الصفرة والكدرة حيض في أيام الحيض وفي غير أيام الحيض رأت ذلك مع الدم أم لم تره. وقال داود وأبو يوسف: إن الصفرة والكدرة لا تكون حيضة إلا بأثر الدم. والسبب في اختلافهم مخالفة ظاهر حديث أم عطية لحديث عائشة، وذلك أنه روي عن أم عطية أنها قالت: كنا لا نعد الصفرة ولا الكدرة بعد الغسل شيئا، وروي عن عائشة: أن النساء كن يبعثن إليها بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة والكدرة من دم الحيض يسألنها عن الصلاة؛ فتقول: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء، فمن رجح حديث عائشة جعل الصفرة والكدرة حيضا، سواء ظهرت في أيام الحيض أو في غير أيامه مع الدم أو بلا دم، فإن حكم الشيء الواحد في نفسه ليس يختلف، ومن رام الجمع بين الحديثين قال: إن حديث أم عطية هو بعد انقطاع الدم، وحديث عائشة في أثر انقطاعه، أو إن حديث عائشة هو في أيام الحيض، وحديث أم عطية في غير أيام الحيض. وقد ذهب قوم إلى ظاهر حديث أم عطية ولم يروا الصفرة ولا الكدرة شيئا لا في أيام حيض ولا في غيرها، ولا بأثر الدم ولا بعد انقطاعه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "دم الحيض دم أسود يعرف" ولأن الصفرة والكدرة ليست بدم، وإنما هي من سائر الرطوبات التي ترخيها الرحم، وهو مذهب أبي محمد بن حزم.
-(المسألة السادسة) اختلف الفقهاء في علامة الطهر، فرأى قوم أن علامة الطهر رؤية القصة البيضاء أو الجفوف، وبه قال ابن حبيب من أصحاب مالك وسواء كانت المرأة ممن عادتها أن تطهر بالقصة البيضاء أو بالجفوف أي ذلك رأت طهرت به. وفرق قوم فقالوا: إن كانت المرأة ممن ترى القصة البيضاء فلا تطهر حتى تراها، وإن كانت ممن لا تراها فطهرها الجفوف، وذلك في المدونة عن مالك. وسبب اختلافهم أن منهم من راعى العادة ومنهم من راعى انقطاع الدم فقط، وقد قيل إن التي عادتها الجفوف تطهر بالقصة البيضاء ولا تطهر التي عادتها القصة البيضاء بالجفوف وقد قيل بعكس هذا وكله لأصحاب مالك.
-(المسألة السابعة) اختلف الفقهاء في المستحاضة إذا تمادى بها الدم متى يكون حكمها حكم الحائض، كما اختلفوا في الحائض إذا تمادى بها الدم متى يكون حكمها حكم المستحاضة، وقد تقدم ذلك، فقال مالك في المستحاضة أبدأ: حكمها حكم الطاهرة إلى أن يتغير الدم إلى صفة الحيض، وذلك إذا مضى لاستحاضتها من الأيام ما هو أكثر من أقل أيام الطهر، فحينئذ تكون حائضا: أعني إذا اجتمع لها هذان الشيئان تغير الدم وأن يمر لها في الاستحاضة من الأيام ما يمكن أن يكون طهرا، وإلا فهي مستحاضة أبدا. وقال أبو حنيفة تقعد أيام عادتها إن كانت لها عادة، وإن كانت مبتدأة قعدت أكثر الحيض وذلك عنده عشرة أيام. وقال الشافعي تعمل على التمييز إن كانت من أهل التمييز، وإن كانت من أهل العادة عملت على العادة، وإن كانت من أهلهما معا فله في ذلك قولان: أحدهما تعمل على التمييز، والثاني على العادة. والسبب في اختلافهم أن في ذلك حديثين مختلفين أحدهما حديث عائشة عن فاطمة بنت أبي حبيش "أن النبي عليه الصلاة والسلام أمرها وكانت مستحاضة أن تدع الصلاة قدر أيامها التي كانت تحيض فيها قبل أن يصيبها الذي أصابها ثم تغتسل وتصلي" وفي معناه أيضا حديث أم سلمة المتقدم الذي خرجه مالك، والحديث الثاني ما خرجه أبو داود من حديث فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت استحيضت فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن دم الحيضة أسود يعرف، فإذا كان ذلك فامكثي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضيء وصلي فإنما هو عرق" وهذا الحديث صححه أبو محمد بن حزم، فمن هؤلاء من ذهب مذهب الترجيح، ومنهم من ذهب مذهب الجمع، فمن ذهب مذهب ترجيح حديث أم سلمة وما ورد في معناه قال باعتبار الأيام، ومالك رضي الله عنه اعتبر عدد الأيام فقط في الحائض التي تشك في الاستحاضة، ولم يعتبرها في المستحاضة التي تشك في الحيض، أعني لا عددها ولا موضعها من الشهر إذا كان عندها ذلك معلوما، والنص إنما جاء في المستحاضة التي تشك في الحيض، فاعتبر الحكم في الفرع، ولم يعتبره في الأصل وهذا غريب فتأمله. ومن رجح حديث فاطمة بنت أبي حبيش قال باعتبار اللون، ومن هؤلاء من راعى مع اعتبار لون الدم مضي ما يمكن أن يكون طهرا من أيام الاستحاضة، وهو قول مالك فيما حكاه عبد الوهاب. ومنهم من لم يراع ذلك. ومن جمع بين الحديثين قال: الحديث الأول هو في التي تعرف عدد أيامها من الشهر وموضعها. والثاني في التي لا تعرف عددها ولا موضعها وتعرف لون الدم، ومنهم من رأى أنها إن لم تكن من أهل التمييز ولا تعرف موضع أيامها من الشهر وتعرف عددها أو لا تعرف عددها إنها تتحرى على حديث حمنة بنت جحش، صححه الترمذي، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها "إنما هي ركضة من الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي" وسيأتي الحديث بكماله عند حكم المستحاضة في الطهر، فهذه هي مشهورات المسائل التي في هذا الباب، وهي بالجملة واقعة في أربعة مواضع: أحدها معرفة انتقال الطهر إلى الحيض. والثاني معرفة انتقال الحيض إلى الطهر. والثالث معرفة انتقال الحيض إلى الاستحاضة. والرابع معرفة انتقال الاستحاضة إلى الحيض، وهو الذي وردت فيه الأحاديث. وأما الثلاثة فمسكوت عنها: أعني عن تحديدها، وكذلك الأمر في انتقال النفاس إلى الاستحاضة.
الباب الثالث. وهو معرفة أحكام الحيض والاستحاضة.
-والأصل في هذا الباب قوله تعالى {ويسئلونك عن المحيض} الآية، والأحاديث الواردة في ذلك التي سنذكرها. واتفق المسلمون على أن الحيض يمنع أربعة أشياء: أحدها فعل الصلاة ووجوبها، أعني أنه ليس يجب على الحائض قضاؤها بخلاف الصوم. والثاني أنه يمنع فعل الصوم لا قضاءه، وذلك لحديث عائشة الثابت أنها قالت: "كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة" وإنما قال بوجوب القضاء عليها طائفة من الخوارج. والثالث فيما أحسب الطواف لحديث عائشة الثابت حين أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفعل كل ما يفعل الحاج غير الطواف بالبيت. والرابع الجماع في الفرج لقوله تعالى {فاعتزلوا النساء في المحيض} الآية.
-(واختلفوا من أحكامها في مسائل) نذكر منها مشهوراتها، وهي خمس:
-(المسألة الأولى) اختلف الفقهاء في مباشرة الحائض وما يستباح منها، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: له منها ما فوق الإزار فقط. وقال سفيان الثوري وداود الظاهري: إنما يجب عليه أن يجتنب موضع الدم فقط. وسبب اختلافهم ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك، والاحتمال الذي في مفهوم آية الحيض، وذلك أنه ورد في الأحاديث الصحاح عن عائشة وميمونة وأم سلمة أنه عليه الصلاة والسلام كان يأمر إذا كانت إحداهن حائضا أن تشد عليها إزارها ثم يباشرها، وورد أيضا من حديث ثابت بن قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "اصنعوا كل شيء بالحائض إلا النكاح" وذكر أبو داود عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها وهي حائض "اكشفي عن فخذك، قالت: فكشفت، فوضع خده وصدره على فخذي، وحنيت عليه حتى دفئ، وكان قد أوجعه البرد. وأما الاحتمال الذي في آية الحيض، فهو تردد قوله تعالى {قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} بين أن يحمل على عمومه إلا ما خصصه الدليل، أو أن يكون من باب العام أريد به الخاص، بدليل قوله تعالى فيه {قل هو أذى} والأذى إنما يكون في موضع الدم، فمن كان المفهوم منه عنده العموم، أعني أنه إذا كان الواجب عنده أن يحمل هذا القول على عمومه حتى يخصصه الدليل، استثنى من ذلك ما فوق الإزار بالسنة، إذ المشهور جواز تخصيص الكتاب بالسنة عند الأصوليين، ومن كان عنده من باب العام أريد به الخاص رجح هذه الآية على الآثار المانعة مما تحت الإزار، وقوي ذلك عنده بالآثار المعارضة للآثار المانعة مما تحت الإزار، ومن الناس من رام الجمع بين هذه الآثار، وبين مفهوم الآية على هذا المعنى الذي نبه عليه الخطاب الوارد فيها وهو كونه أذى، فحمل أحاديث المنع لما تحت الإزار على الكراهية وأحاديث الإباحة، ومفهوم الآية على الجواز، ورجحوا تأويلهم هذا بأنه قد دلت السنة أنه ليس من جسم الحائض شيء نجس إلا موضع الدم وذلك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عائشة أن تناوله الخمرة وهي حائض، فقالت: إني حائض، فقال عليه الصلاة والسلام: إن حيضتك ليست في يدك" وما ثبت أيضا من ترجيلها رأسه عليه الصلاة والسلام وهي حائض، وقوله عليه الصلاة والسلام "إن المؤمن لا ينجس".
-(المسألة الثانية) اختلفوا في وطء الحائض في طهرها وقبل الاغتسال، فذهب مالك والشافعي والجمهور إلى أن ذلك لا يجوز حتى تغتسل، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن ذلك جائز إذا طهرت لأكثر مدة الحيض وهو عنده عشرة أيام، وذهب الأوزاعي إلى أنها إن غسلت فرجها بالماء جاز وطؤها، أعني كل حائض طهرت متى طهرت، وبه قال أبو محمد بن حزم. وسبب اختلافهم الاحتمال الذي في قوله تعالى {فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} هل المراد به الطهر الذي هو انقطاع دم الحيض أم الطهر بالماء؟ ثم إن كان الطهر بالماء، فهل المراد به طهر جميع الجسد أم طهر الفرج؟ فإن الطهر في كلام العرب وعرف الشرع اسم مشترك يقال على هذه الثلاثة المعاني، وقد رجح الجمهور مذهبهم بأن صيغة التفعل إنما تنطلق على ما يكون من فعل المكلفين، لا على ما يكون من فعل غيرهم، فيكون قوله تعالى {فإذا تطهرن} أظهر في معنى الغسل بالماء منه في الطهر الذي هو انقطاع الدم، والأظهر يجب المصير إليه حتى يدل الدليل على خلافه، ورجح أو حنيفة مذهبه بأن لفظ يفعلن في قوله تعالى {حتى يطهرن} هو أظهر في الطهر الذي هو انقطاع دم الحيض منه في التطهر بالماء. والمسألة كما ترى محتملة، ويجب على من فهم من لفظ الطهر في قوله تعالى {حتى يطهرن} معنى واحدا من هذه المعاني الثلاثة أن يفهم ذلك المعنى بعينه من قوله تعالى {فإذا تطهرن} لأنه مما ليس يمكن أو مما يعسر أن يجمع في الآية بين معنيين من هذه المعاني مختلفين حتى يفهم من لفظه يطهرن النقاء، ويفهم من لفظ تطهرن الغسل بالماء على ما جرت به عادة المالكيين في الاحتجاج لمالك، فإنه ليس من عادة العرب أن يقولوا لا تعط فلانا درهما حتى يدخل الدار، فإذا دخل المسجد فأعطه درهما، بل إنما يقولون وإذا دخل الدار فأعطه درهما، لأن الجملة الثانية هي مؤكدة لمفهوم الجملة الأولى. ومن تأول قوله تعالى {ولا تقربوهن حتى يطهرن} على أنه النقاء، وقوله {فإذا تطهرن} على أنه الغسل بالماء فهو بمنزلة من قال لا تعط فلانا درهما حتى يدخل الدار، فإذا دخل المسجد فأعطه درهما، وذلك غير مفهوم في كلام العرب، إلا أن يكون هنالك محذوف ويكون تقدير الكلام: ولا تقربوهن حتى يطهرن ويتطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله، وفي تقدير هذا الحذف بعد أما ولا دليل عليه إلا أن يقول قائل: ظهور لفظ التطهر في معنى الاغتسال هو الدليل عليه، لكن هذا يعارضه ظهور عدم الحذف في الآية، فإن الحذف مجاز، وحمل الكلام على الحقيقة أظهر من حمله على المجاز، وكذلك فرض المجتهد هنا إذا انتهى بنظره إلى مثل هذا الموضع أن يوازن بين الظاهرين، فما ترجح عنده منهما على صاحبه عمل عليه، وأعني بالظاهرين أن يقايس بين ظهور لفظ فإذا تطهرن في الاغتسال بالماء وظهور عدم الحذف في الآية إن أحب أن يحمل لفظ تطهرن على ظاهره من النقاء، فأي الظاهرين كان عنده أرجح عمل عليه، أعني إما أن لا يقدر في الآية حذفا ويحمل لفظ فإذا تطهرن على النقاء أو يقدر في الآية حذفا ويحمل لفظ فإذا تطهرن على الغسل بالماء، أو يقايس بين ظهور لفظ فإذا تطهرن في الاغتسال وظهور يطهرن في النقاء، فأي كان عنده أظهر أيضا صرف تأويل اللفظ الثاني له وعمل على أنهما يدلان في الآية على معنى واحد، أعني إما على معنى النقاء وإما على معنى الاغتسال بالماء، وليس في طباع النظر الفقهي أن ينتهي في هذه الأشياء إلى أكثر من هذا فتأمله، وفي مثل هذه الحال يسوغ أن يقال: كل مجتهد مصيب. وأما اعتبار أبي حنيفة أكثر الحيض في هذه المسألة فضعيف.
-(المسألة الثالثة) اختلف الفقهاء في الذي يأتي امرأته وهي حائض، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: يستغفر الله ولا شيء عليه. وقال أحمد بن حنبل: يتصدق بدينار أو بنصف دينار. وقالت فرقة من أهل الحديث: إن وطئ في الدم فعليه دينار، وإن وطئ في انقطاع الدم فنصف دينار. وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في صحة الأحاديث الواردة في ذلك أو وهيها، وذلك أنه روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض أن يتصدق بدينار. وروي عنه بنصف دينار. وكذلك روي أيضا في حديث ابن عباس هذا أنه إن وطئ في الدم فعليه دينار، وإن وطئ في انقطاع الدم فنصف دينار. وروي هذا الحديث يتصدق بخمسي دينار، وبه قال الأوزاعي، فمن صح عنده شيء من هذه الأحاديث صار إلى العمل بها، ومن لم يصح عنده شيء منها وهم الجمهور عمل على الأصل الذي هو سقوط الحكم حتى يثبت بدليل.
-(المسألة الرابعة) اختلف العلماء في المستحاضة، فقوم أوجبوا عليها طهرا واحدا فقط، وذلك عند ما ترى أنه قد انقضت حيضتها بإحدى تلك العلامات التي تقدمت على حسب مذهب هؤلاء في تلك العلامات، وهؤلاء الذين أوجبوا عليها طهرا واحدا انقسموا قسمين: فقوم أوجبوا عليها أن تتوضأ لكل صلاة، وقوم استحبوا ذلك لها ولم يوجبوه عليها، والذين أوجبوا عليها طهرا واحد فقط هم مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وأكثر فقهاء الأمصار، وأكثر هؤلاء أوجبوا أن تتوضأ لكل صلاة، وبعضهم لم يوجب عليها إلا استحبابا وهو مذهب مالك، وقوم آخرون غير هؤلاء رأوا أن على المستحاضة أن تتطهر لكل صلاة، وقوم رأوا أن الواجب أن تؤخر الظهر إلى أول العصر، ثم تتطهر وتجمع بين الصلاتين، وكذلك تؤخر المغرب إلى آخر وقتها وهو أول وقت العشاء، وتتطهر طهرا ثانيا وتجمع بينهما ثم تتطهر طهرا ثالثا لصلاة الصبح، فأوجبوا عليها ثلاثة أطهار في اليوم والليلة، وقوم رأوا أن عليها طهرا واحدا في اليوم والليلة، ومن هؤلاء من لم يحد له وقتا، وهو مروي عن علي. ومنهم من رأى أن تتطهر من طهر إلى طهر، فيتحصل في المسألة بالجملة أربعة أقوال: قول إنه ليس عليها إلا طهرا واحد فقط عند انقطاع دم الحيض. وقول إن عليها الطهر لكل صلاة.
وقول إن عليها ثلاثة أطهار في اليوم والليلة. وقول إن عليها طهرا واحدا في اليوم والليلة. والسبب في اختلافهم في هذه المسألة هو اختلاف ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك، وذلك أن الوارد في ذلك من الأحاديث المشهورة أربعة أحاديث: واحد منها متفق على صحته، وثلاثة مختلف فيها. أما المتفق على صحته فحديث عائشة قالت "جاءت فاطمة ابنة أبي حبيش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال لها عليه الصلاة والسلام: لا، إنما ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي" وفي بعض روايات هذا الحديث "وتوضئي لكل صلاة" وهذه الزيادة لم يخرجها البخاري ولا مسلم، وخرجها أبو داود وصححها قوم من أهل الحديث. والحديث الثاني حديث عائشة عن أم حبيبة بنت جحش امرأة عبد الرحمن بن عوف "أنها استحاضت فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل لكل صلاة" وهذا الحديث هكذا أسنده إسحاق عن الزهري، وأما سائر أصحاب الزهري فإنما رووا عنه: أنها استحيضت، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: "إنما هو عرق وليست بالحيضة" وأمرها أن تغتسل وتصلي، فكانت تغتسل لكل صلاة على أن ذلك هو الذي فهمت منه، لا أن ذلك منقول من لفظه عليه الصلاة والسلام ، ومن هذا الطريق خرجه البخاري، وأما الثالث فحديث أسماء بنت عميس "أنها قالت: يا رسول الله إن فاطمة ابنة أبي حبيش استحيضت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لتغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا، وللمغرب والعشاء غسلا واحدا، وتغتسل للفجر وتتوضأ فيما بين ذلك" خرجه أبو داود، وصححه أبو محمد بن حزم.
وأما الرابع فحديث حمنة ابنة جحش، وفيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرها بين أن تصلي الصلوات بطهر واحد عند ما ترى أنه قد انقطع دم الحيض، وبين أن تغتسل في اليوم والليلة ثلاث مرات على حديث أسماء بنت عميس، إلا أن هنالك ظاهره على الوجوب وهنا على التخيير، فلما اختلفت ظواهر هذه الأحاديث ذهب الفقهاء في تأويلها أربعة مذاهب: مذهب النسخ، ومذهب الترجيح، ومذهب الجمع، ومذهب البناء، والفرق بين الجمع والبناء أن الباني ليس يرى أن هنالك تعارضا فيجمع بين الحديثين، وأما الجامع فهو يرى أن هنالك تعارضا في الظاهر، فتأمل هذا، فإنه فرق بين.
أما من ذهب مذهب الترجيح فمن أخذ بحديث فاطمة بنة حبيش لمكان الاتفاق على صحته عمل على ظاهره، أعني من أنه لم يأمرها صلى الله عليه وسلم أن تغتسل لكل صلاة ولا أن تجمع بين الصلوات بغسل واحد، ولا بشيء من تلك المذاهب، وإلى هذا ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحاب هؤلاء وهم الجمهور، ومن صحت عنده من هؤلاء الزيادة الواردة فيه، وهو الأمر بالوضوء لكل صلاة أوجب ذلك عليها، ومن لم تصح عنده لم يوجب ذلك عليها، وأما من ذهب مذهب البناء فقال: إنه ليس بين حديث فاطمة وحديث أم حبيبة الذي من رواته ابن إسحاق تعارض أصلا، وأن الذي في حديث أم حبيبة من ذلك زيادة على ما في حديث فاطمة، فإن حديث فاطمة إنما وقع الجواب فيه عن السؤال، هل ذلك الدم حيض يمنع الصلاة أم لا؟ فأخبرها عليه الصلاة والسلام أنها ليست بحيضة تمنع الصلاة ولم يخبرها فيه بوجوب الطهر أصلا لكل صلاة ولا عند انقطاع دم الحيض؛ وفي حديث أم حبيبة أمرها بشيء واحد وهو التطهر لكل صلاة، لكن للجمهور أن يقولوا إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فلو كان واجبا عليها الطهر لكل صلاة لأخبرها بذلك، ويبعد أن يدعى مدع أنها كانت تعرف ذلك مع أنها كانت تجهل الفرق بين الاستحاضة والحيض.
وأما تركه عليه الصلاة والسلام إعلامها بالطهر لواجب عليها عند انقطاع دم الحيض، فمضمن في قوله" إنها ليست بالحيضة" لأنه كان معلوما من سنته عليه الصلاة والسلام أن انقطاع الحيض يوجب الغسل، فإذا إنما لم يخبرها بذلك لأنها كانت عالمة به، وليس الأمر كذلك في وجوب الطهر لكل صلاة إلا أن يدعي مدع أن هذه الزيادة لم تكن قبل ثابتة وتثبت بعد، فيتطرق إلى ذلك المسألة المشهورة، هي الزيادة نسخ أم لا؟ وقد روي في بعض طرق حديث فاطمة أمره عليه الصلاة والسلام لها بالغسل، فهذا هو حال من ذهب مذهب الترجيح ومذهب البناء، وأما من ذهب مذهب النسخ فقال: إن حديث أسماء بنت عميس ناسخ لحديث أم حبيبة، واستدل على ذلك بما روي عن عائشة "أن سهلة بنت سهيل استحيضت وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرها بالغسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر في غسل واحد والمغرب والعشاء في غسل واحد وتغتسل ثالثا للصبح" وأما الذين ذهبوا مذهب الجمع فقالوا: إن حديث فاطمة ابنة حبيش محمول على التي تعرف أيام الحيض من أيام الاستحاضة، وحديث أم حبيبة محمول على التي لا تعرف ذلك، فأمرت بالطهر في كل وقت احتياطا للصلاة، وذلك أن هذه إذا قامت إلى الصلاة يحتمل أن تكون طهرت فيجب عليها أن تغتسل لكل صلاة. وأما حديث أسماء ابنة عميس فمحمول على التي لا يتميز لها أيام الحيض من أيام الاستحاضة، إلا أنه قد ينقطع عنها في أوقات فهذه إذا انقطع عنها الدم وجب عليها أن تغتسل وتصلي بذلك الغسل صلاتين. وهنا قوم ذهبوا مذهب التخيير بين حديثي أم حبيبة وأسماء واحتجوا لذلك بحديث حمنة بنت جحش وفيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرها" وهؤلاء منهم من قال: إن المخيرة هي التي لا تعرف أيام حيضتها. ومنهم من قال: بل هي المستحاضة على الإطلاق عارفة كانت أو غير عارفة، وهذا هو قول خامس في المسألة، إلا أن الذي في حديث حمنة ابنة جحش إنما هو التخيير بين أن تصلي الصلوات كلها بطهر واحد، وبين أن تتطهر في اليوم والليلة ثلاث مرات. وأما من ذهب إلى أن الواجب أن تطهر في كل يوم مرة واحدة، فلعله إنما أوجب ذلك عليها لمكان الشك ولست أعلم في ذلك أثرا.
-(المسألة الخامسة) اختلف العلماء في جواز وطء المستحاضة على ثلاثة أقوال: فقال قوم: يجوز وطؤها، وهو الذي عليه فقهاء الأمصار، وهو مروي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وجماعة من التابعين. وقال قوم ليس يجوز وطؤها، وهو مروي عن عائشة، وبه قال النخعي والحكم. وقال قوم: لا يأتيها زوجها إلا أن يطول ذلك بها، وبهذا القول قال أحمد بن حنبل. وسبب اختلافهم هل إباحة الصلاة لها هي رخصة لمكان تأكيد وجوب الصلاة، أم إنما أبيحت لها الصلاة لأن حكمها حكم الطاهر؟ فمن رأى أن ذلك رخصة لم يجز لزوجها أن يطأها، ومن رأى ذلك لأن حكمها حكم الطاهر أباح لها ذلك، وهي بالجملة مسألة مسكوت عنها. وأما التفريق بين الطول ولا طول فاستحسان.